فيروز.. صوت مخملي يتغلغل في شعب القلب
“في قهوة على المفرق… نحن والقمر جيران.. طريق النحل”.. وغيرها من أغانٍ لطالما سحرتنا وألقتنا إلى عالم الدفء والذكريات، ذلك الصوت الذي يغور إلى الأعماق ويصعد إلى الذرى، إنها فيروز قد أطلّت في بداية الخمسينات من القرن العشرين بأغنيات مثل “عتاب- راجعة – إلى راعية- الروزانا” قد أعلنت نفسها مطربة مغايرة بهوية صوتية متميزة حتى بات يقال: الصوت الفيروزي الذي يتمدد بين الحنايا.. صوت لا يؤخذ بالأذن وحدها بل بمسجات الروح…
من هي فيروز…؟
ولدت “نهاد وديع حدّاد” في بلدة “ديبة”، إحدى قرى “قضاء الشوف” في جبل لبنان، كانت عائلتها فقيرة، انتقلت إلى “بيروت” لتعيش في بيت بسيط، والدها هو “وديع حدّاد”، كان يعمل في مطبعة “لوجور”، ووالدتها “ليزا البستاني” التي توفيت في نفس اليوم التي سجلت فيروز أغنية “ياجارة الوادي”… بدأت عملها الفني عام 1940 كمغنية كورس في الإذاعة اللبنانية، لكن الموسيقار “محمد فليفل” قد اكتشف صوتها وضمها لفريقه الذي كان ينشد الأغاني الوطنية. ألّف لها “حليم الرومي” مدير الإذاعة اللبنانية أول أغانيها ومن ثمّ عرّفها على “عاصي الرحباني” الذي أطلقها في عالم النجومية. عام 1952 بدأت الغناء من ألحان “عاصي” وبدأت شهرتها في العالم العربي، كانت أغلب أغانيها للأخوين “عاصي ومنصور الرحباني” في عام 1955 تزوجت “عاصي” وأنجبت “زياد” عام 1956، ثمّ “هالي” 1958 وهو مقعد، ثم “ليال” عام 1960 التي توفيت شابة عام 1988، وأخيراً “ريما” عام 1965. غنّت “فيروز” مئات الأغاني التي أحدثت ثورة في الموسيقا العربية وذلك لتميزها بقصر المدة وقوة المغنى، أغانٍ بسيطة التعبير، متنوعة المواضيع، غنّت للحب وللأطفال وللقدس وللحزن والفرح والوطن والأم، وقد غنت للعديد من الشعراء والملحنين ومنهم “ميخائيل نعيمة- إيليا أبو ماضي” وغيرهم… بعد وفاة زوجها “عاصي” عام 1986، غنّت لعدد من الملحنين منهم “فيلمون وهبة و زكي ناصيف”، ثمّ عملت بشكل رئيسي مع ابنها “زياد” بنمط موسيقي خاص به، يستقى من الموسيقى العربية والعالمية، وقدّم لها عدة ألبومات مغايرة للماضي مثل “كيفك انت- فيروز في بيت الدين”. وفي عام 2001 كان آخر ما قدمته ألبوم “ولا كيف”.
فيروز والقصائد والسينما..
من أجمل ما غنّت فيروز “خذني بعينيك- الآن الآن وليس غداً- ياجارة الوادي”. من ألحان الموسيقار “محمد عبد الوهاب”: “تناثري- سكن الليل- زهرة المدائن- أناجيك في سرّي- أعطني الناي وغني”.
مثّلت “فيروز” عدة أفلام كان لها صدى وتأثير على الجمهور العربي، من هذه الأفلام “بياع الخواتم 1964- سفر برلك 1967- بنت الحارس 1968”. بالإضافة إلى برنامج تلفزيوني غنائي بعنوان “الإسوارة عام 1963”.
فيروز… بطلة المسرح الرحباني
كانت بطلة جميع المسرحيات الرحبانية ماعدا اثنتين منها قامت ببطولتهما الفنانة “صباح”. ومن الصعب علينا تخيل المسرح الرحباني من دون “فيروز”، فقد كانت بطلته الأولى دون منازع رغم وجود فنانين كبار إلى جانبها مثل “نصري شمس الدين وفيلمون وهبة وأنطوان كرباج”، وقد أبدع الأخوان رحباني لفيروز لغة مميزة ومواقف درامية مفصّلة على قياسها إلى حد بعيد إن لم نقل بشكل كامل.
كانت تلك الشخصيات تتطلب مهارة ومقدرة كبيرة بحيث كانت تقوم على دعائم ثلاث: الغناء والتمثيل والحضور. وقد شاهدنا “فيروز” تؤدي أدورا صعبة كدور بائعة البندورة في “الشخص”، ودور “غربة” في “جبال الصوان”، و “عطر الليل” في “أيام فخر الدين”، و”شكيلا الملكة” في “بترا”، وهالة في “هالة والملك” وغيرها. وكلها نماذج لشخصيات مسرحية مشغولة بانتباه شديد تتحرك وتتفاعل وفق نص وحبكة، وتحمل في طياتها أبعاداً درامية عميقة كما تحمل مشاعر وأحاسيس متلونة بين الفرح والحزن والغضب والهم الوجداني، لتشكل الدعائم الأساسية في تركيبة الشخصيات الدرامية، عندما يشتد الصراع في “جسر القمر” ويبلغ العنف ذروته بين أهل الجسر وأهل القاطع نجد “فيروز” تتدخل كرسولة وتقول لشيخ المشايخ: “يا شيخ المشايخ- رح قلك هالكلمة صوت المعول أحلى من رنين السيف- والرضى أحلى من الزعل والسلام كنز الكنوز”. كانت في المواقف البطولية والوطنية تمتلك مفردات خاصة تحرك المشاعر، كما واجهت ذلك المتسلط الذي احتل “جبل الصوان” أرض أجدادها: “الأرض ملك الكل، بس الأرض ما بتساع الظلم والناس- لما بيوقع الظلم بتضيق الأرض”. كل مسرحية لها مفردات جديدة، وقد يكون هذا من ضمن محاولات التجديد في المسرح الرحباني كما في مسرحية “لولو” و”ميس الريم”.
الحرب الأهلية طالت بشظاياها المسرح الرحباني:
عندما حصل ذلك الارتباك على صورة حرب أهلية شاملة عام 1975 طالت المدينة والقرية بشظاياها، ولم تنفع كل الدعوات السلمية ولا التحذيرات ولا كلمات الحب وعبارات الأصول في الحفاظ على الأوطان، التي طالما نادى بها المسرح الرحباني في لجم الغرائز المتوحشة، فتهشمت صورة الوطن خلف غبار المعارك البربرية التي دامت أكثر من خمسة عشر عاماً، وقد أصابت بدورها مسرح الرحابنة وأصيب هذا الاتفاق والنجاح الكبير بهزّة عنيفة بعد الفراق الذي حصل بين “فيروز وعاصي”… وبقي صوت فيروز حاضراً في كل زمان ومكان وكل ما كتب عن فيروز يصورها فريدة عصرها. ما حصل يذكرنا بمسرحيتها “جبل الصوان” التي تقول فيها لشعبها :”لا تخافوا ما في حبوس تساع كل الناس- بيعتقلوا كتير بيبقى كتير- وياللي بيبقوا رح منكمل – هدّمت الحروب المدن وعمّروها اللي بيقيوا، استعبد الظلام الناس وحرروهن اللي بقيو، بدنا نكمل المشوار.. قلال؟ يكون منكمل باللي بقيوا…”.