“تشي جيفارا”…
الزعيم الثوري… مازال اسمه لامعاً… حتى الآن
الثورة كائن حي تماماً كالبشر، لها عمر وأجل، تبدأ وليدة وتسير كالصبا حتى تبلغ أشدها، وحين تهرم تفقد ملامحها، وقد يغيب حاملوها، لكنها تبقى بسحنتها وذكراها ومعالمها تحت تجاعيد الزمن وتقلباته، تحتاج إلى أشخاص يحملون رايتها لتظل حية ومن هنا، من قلب “الأرجنتين” ولد “أرنستو تشي جيفارا” عام 1928، درس الطب في جامعة “بوينس آيرس” وتخرج عام 1953، كان مصاباً بالربو، فلم يلحق بالخدمة العسكرية، لكنه كان يشعر بالظلم الواقع على الناس، وخاصة على المزارعين اللاتينيين البسطاء… كان يقول دائماً: “إنني أحس على وجهي بألم كل صفعة توجه إلى مظلوم في هذه الدنيا، فأينما وجد الظلم فذاك هو وطني…”
في عام 1955 قابل “جيفارا” المناضلة اليسارية “هيلدا أكوستا” من “بيرو” في منفاها في “جواتيمالا”، فتزوجها وأنجب منها طفلته الأولى، وما إن خرج “فيديل كاسترو” من سجنه حتى قرر “جيفارا” الانضمام إلى الثورة الكوبية، وقد رأى “كاسترو” أنهم في أمس الحاجة إليه كطبيب.
أيام الثورة الكوبية
عرف “تشي جيفارا” دورات حياة متعددة، وكانت كلماته درباً للثّوار، خبر جزءاً من حياته مسلكاً لطريق المتمردين، حتى أضاءته أيام الثورة الكوبية التي جرت في عام 1959، فقد اكتسح رجال “حرب العصابات” “هافانا” برئاسة “فيدل كاسترو”، وأسقطوا الديكتاتورية العسكرية لـ”فوليجتسيو باتيستا” برغم دعم الولايات المتحدة له ولعملاء “CIA” داخل جيش عصابات “كاسترو”. حيث ظلت المجموعة تقود حرب العصابات لمدة سنتين حتى خسروا نصف عددهم في معركة مع الجيش.
وبواسطة خطة “جيفارا” للنزول من حبال “سييرا” باتجاه العاصمة “الكوبية”، تمكن الثّوار من دخول العاصمة “هافانا” في حزيران عام 1959 على رأس 300 مقاتل، وانتصرت الثورة وأطاحت بحكم الدكتاتور “باتيستا”، في تلك الأثناء اكتسب “جيفارا” لقب “تشي” الأرجنتيني، وتزوج من زوجته الثانية “اليدا مارش”، وأنجب منها أربعة أبناء بعد أن طلق زوجته الأولى.
لم يعد “جيفارا” مجرد طبيب، بل أصبح قائداً برتبة عقيد وشريك “فيدل كاسترو” ، وفي قيادة الثورة، فقد كان مخططاً ذكياً للمعارك.
“جيفارا” وزيراً
عين مديراً للمصرف المركزي وأشرف على محاكمات خصوم الثورة وبناء الدولة في فترة لم تعلن فيها الثورة عن وجهها الشيوعي، ثم قامت الحكومة الشيوعية، وأصبح “جيفارا” وزيراً للصناعة وممثلاً لـ “كوبا” في الخارج، ومتحدث باسمها في الأمم المتحدة. قام بزيارة إلى “الاتحاد السوفيتي” و”الصين”، ثم اختلف مع “السوفييت” على إثر سحب صواريخهم من “كوبا” بعد أن وقعت “الولايات المتحدة” معاهدة عدم اعتداء مع “كوبا”. كان “تشي جيفارا” يتصدى بقواه لتدخلات “الولايات المتحدة”، وقرر تأميم جميع مصالح الدولة بالاتفاق مع “كاسترو”، فشددت “الولايات” المتحدة الحصار على “كوبا”.
ثورات جديدة في حياة “جيفارا”
في تشرين الأول من عام 1965، أرسل “جيفارا” رسالة إلى “كاسترو” تخلى فيها عن مسؤولياته في قيادة الحزب وعن منصبه كوزير وعن رتبته كقائد، وقد عبّر عن حبه العميق لـ “كاسترو” ولـ “كوبا”، وحنينه لأيام النضال المشترك، أكدت هذه الرسالة إصراره على عدم العودة إلى “كوبا” بصفة رسمية، بل كثائر يبحث عن ملاذ آمن بين الحين والآخر. كان يقول دائماً : “لا أستطيع أن أعيش ودماء الثورة مجمدة داخلي”. لذلك ساند الحركات الثورية في “تشيلي” و”فيتنام” و”الجزائر” و”الكونغو”، التي كان فيها محارباً بجانب قائد ثورتها “باتريس لومومبا” ثم فجأة عاد إلى “بوليفيا” قائداً لثورة جديدة.
قام “تشي” بقيادة مجموعة من المحاربين العشرين، يواجه وحدات الجيش المدججة بالسلاح بقيادة “السي آي أيه” في براري “بوليفيا” الاستوائية، وفي أثناء ذلك بدأ في كتابة مذكراته عام 1966.
اغتيال “جيفارا”.. ظلام في قلب النهار
توزعت السلالم على عدة محطات، وبعد أن غاص في محيط من الثورات العالمية من النور، لابد للظلام من جولة!! فلم تضيء خطوات موته سوى مصابيح شحيحة الضوء، لكن زحمة البطولات تنتقل إلينا مع نور البصر…
ففي ضوء ذلك الطريق العريق، ألقي القبض على اثنين من مراسلي الثوار، فاعترفوا تحت وطأة التنكيل والتعذيب أن “جيفارا” قائد الثورة وانتشر آلاف الجنود لتمشيط المنطقة، كانت طلقات الربو تتجاذبه بين حين وأخر فينحسر اللون الأخضر تحت عباءة المرض مما ساهم في تسهيل البحث ومطاردته.
في 8 تشرين الأول عام 1967 وفي إحدى وديان “بوليفيا” الضيقة، هاجمت قوات الجيش “البوليفي” المكون من 1500 فرد مجموعة “جيفارا” المكونة من 16 فرداً، وظل “جيفارا” ورفاقه يقاتلون لمدة 6 ساعات في منطقة اعترتها الصخور الوعرة، واستمر “تشي” يقاوم ويقاتل حتى بعد موت جميع أفراد مجموعته رغم إصابته بجروح في ساقه، إلى أن دُمرت بندقيته (م-2) وضاع مخزن مسدسه، وهو ما يفسر وقوعه في الأسر حياً، نقل “جيفارا” إلى قرية “لاهيجرا” وبقي حياً لمدة 24 ساعة، ورفض أن يتبادل أي حديث مع من أسروه، وفي مدرسة “القرية” نفذ ضابط الصف “ماريو تيران” تعليمات ضابطيه “ميجيل ايوروا” و”اندريس سيلنيش” بإطلاق النار على “جيفارا”!! وبموته تموت حكايات خرافية نسجتها أيادٍ بيضاء، ومنها ظهرت أنوار بعيدة تمثل خطى أشباه هلالية ترسم أفق الليل، لم يبق منها سوى أسماء وكتابات شعراً ونثراً كتبها “جيفارا” في فترات متقطعة منها:
“حرب العصابات 1961″ـ “الإنسان والاشتراكية في كوبا 1967” ـ “ذكريات الحرب الثورية الكوبية 1968″ ـ”الأسفار تكون الشباب… والوعي!” ـ “الإنسان الجديد” ـ “ما نسيتك”.