ريتشارد سورج … اسطورة الجاسوسية
كان جاسوساً للاتحاد السوفيتي، ليس طمعاً بالمال، إنما لأنه شيوعياً مخلصاً، والجاسوسية في الاتحاد السوفيتي لها ميزات التمويه والسرية التامة، حتى أنهم كانوا يحبذون العمل على جماعات تشكّل شبكة وبعدة أوجه ويقومون بأدوار مزدوجة يلعبونها. كان “سورج” قد ولد سنة 1895 في “باكو” جنوب روسيا، من أم روسية وأب ألماني، ولتأثره بوالدته أصبح جاسوساً للاتحاد السوفيتي، كان والده مهندساً يعمل في إحدى شركات “القوقاز” للنفط، ثم انتقلت أسرته إلى “برلين” وتلقى “سورج” تعليمه الألماني، وكان جدّه “لوالدته” أميناً للسر عند “كارل ماركس”، تطوع في الجيش خلال الحرب العالمية الأولى، وبعد الحرب واصل دراسته حتى حصل على شهادة “الدكتوراه” في العلوم السياسية، وبعد خمس سنوات سافر إلى “موسكو” وانتسب إلى الحزب الشيوعي الروسي، وقد أظهر دراية واسعة لقضايا الشرق الأقصى.
تكوين شبكة جاسوسية:
عيّن “سورج” مراسلاً صحفياً “لروسيا” في الشمال الأوربي، وفي عام 1930 أرسله “الروس” إلى “شنغهاي” في “الصين”، بمهمة سرية، وهي تكوين شبكة جاسوسية هناك، تحت غطاء مراسل صحفي.
نجح في مهمته نجاحاً مذهلاً، كان يتعلم اللغتين “الصينية” و”اليابانية”، حتى أجادهما إجادة تامة، وفي “الصين” تعرّف على الصحفي الياباني “أوزاكي هوزومي”، بعد فترة وجيزة أرسله “الروس” في مهمة أخرى إلى “اليابان”، لتكوين شبكة جاسوسية أخرى، يقوم بإدارتها، وعندما اعتلى “هتلر” زمام السلطة في “ألمانيا”، ذهب “سورج” إلى “ألمانيا” وانتسب إلى الحزب النازي ووافق الحزب على عمله كمراسل صحفي رسمي في “اليابان”، كانت أولى خطواته هي التعرف على السفير “الألماني”، وبذلك نجحت خطة السوفيت في زرع شبكة جاسوسية لها في “اليابان” بقيادة “سورج” وهناك تعمقت علاقته بمساعد الملحق العسكري الألماني العقيد “أوجين آوت”، الذي كان ينتقد المخططات النازية. كان “سورج” يحصل على المعلومات والوثائق والصور الهامة وكلها تحمل نوايا “اليابانيين” العسكرية والخطط الاستراتيجية المقترحة التي تم إرسالها عبر اللاسلكي إلى “موسكو”. وبدأ بتعميق علاقته بالسفير “الألماني” وأعضاء السفارة، مما دعا السفير إلى ترشيحه لمنصب الملحق الصحفي في السفارة. وجاءت الموافقة من “برلين”، وهكذا استطاع أن يطلع على جميع المخططات النازية، واليابانية، أما “أوزاكي” الياباني، فقد ضم للشبكة عشرة يابانيين من ذوي الميول الشيوعية، وكل تلك المعلومات كانت ترسل للاتحاد السوفيتي. وكانت المعلومات التي يرسلها “للروس” صحيحة مئة بالمئة ولم يكن بمقدور “الروس” سحب جندي واحد من الجبهة الشرقية لوقف التقدم الألماني تجاه “موسكو”، وضغوط “هتلر” على اليابانيين للانقضاض على “روسيا” من الشرق.
مفاجأة وصلت إلى ستالين:
أما القيادة اليابانية فهي لم تتدخل ضد “روسيا” بأي شكل من الأشكال. وقد استطاع “أوزاكي” الحصول على صورة محضر اجتماع المجلس الامبراطوري الياباني، وذهل “سورج” أمام المفاجأة التي أرسلها فيما بعد إلى “ستالين” في “روسيا”، وهنا قرر “ستالين” أن يجلب من الشرق الأقصى قوات كثيفة تجبر القوات النازية على التراجع لأول مرة، وهذا ما حدث في معركة “ستالينجراد”، التي كانت بداية النهاية لجيوش “هتلر”، الذي هزم مع دولته أمام “ستالين”، الأمين العام للحزب الشيوعي الروسي.
وهكذا أنقذ “سورج” روسيا وقد شعر أن مهتمه قد انتهت، ولكن حدثت مفاجأة ليست على البال، ففي عام 1941 اعتقلت السلطات اليابانية “أوزاكي” بتهمة التجسس، وبتعذيبه بوحشية اعترف بزعيم الشبكة “ريتشارد سورج”، الذي كان يعيش حياة اللهو مع راقصة يابانية فاتنة اسمها “كيومي”، والتي كانت جاسوسة لليابان وقد دفعت “سورج” لقراءة ورقة تحوي بعض الأسرار العسكرية أمامها، ثم مزقها وألقى بها في سلة القمامة، فقامت “كيومي”، بإبلاغ الحكومة اليابانية، التي أعادت تجميع الورقة وإعادة لصقها، ثم مواجهة “سورج” بها، وبالمطابقة مع المعلومات التي أدلاها “أوزاكي”، سقط هذا الجاسوس وسقطت شبكته كلها، في السابع من “شباط”، تم تنفيذ حكم الإعدام في الدكتور “ريتشارد سورج”، وقد نكّست الأعلام في “موسكو”، حداداً على مصرعه، وتم إصدار طابع بريد يحمل صورته، بعد زمن قصير أخبرت “كيومي” أصدقاءها في الملهى وهي ترتجف من الرعب أن “سورج” متواجد بين رواد الملهى وأنه عاد ليقتلها جزاء ما فعلت به، ولم يصدقها أحد، لكن بعد مضي عدة أيام، ماتت “كيومي” بحادث غامض، لتترك خلفها لغزاً محيراً بمصرعها.